مشهد البداية.. بقلم: المستشار أحمد ضياء عثمان

مقالات , No Comment

تخيل أنك تمتلك شقة في قلب القاهرة، لكنك لا تستطيع زيارتها، ولا التصرف فيها، ولا حتى الحصول على إيجار يعادل ثمن كوب شاي في مقهى صغير…
هذا هو حال آلاف الملاك منذ عشرات السنين، بسبب قانون “الإيجار القديم”، الذي أصبح مع مرور الزمن قيدًا على الملكية، وساحة صراع بين مستأجرين يرون فيه حماية، وملاك يرونه جمودًا وظلمًا.

اليوم، تقف الدولة على أعتاب لحظة فاصلة… لحظة إعادة التوازن، لا بالانتقام، بل بالعدل.

قانون حَكم السوق نصف قرن: ماذا تعرف عن الإيجار القديم؟

قانون الإيجار القديم ليس قانونًا واحدًا، بل هو منظومة من التشريعات التي ظهرت منذ منتصف القرن العشرين، أبرزها:

القانون رقم 49 لسنة 1977

القانون رقم 136 لسنة 1981

القانون رقم 6 لسنة 1997

هذه القوانين وضعت سقفًا ثابتًا للإيجارات لا يتغير مع الزمن، وسمحت بامتداد العلاقة الإيجارية تلقائيًا – بل وتوريثها – لأكثر من جيل، مما جمد سوق العقارات، وأدخل العلاقة بين المالك والمستأجر في نفق مسدود.

حكم المحكمة الدستورية: الملكية أولًا

في نوفمبر 2024، أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمًا تاريخيًا بعدم دستورية بعض مواد الإيجار القديم، خاصة المادة التي كانت تُمدد العلاقة الإيجارية تلقائيًا.

نص الحكم:

“استمرار العلاقة الإيجارية مدى الحياة، وتوريثها بشكل غير محدود، يُعد اعتداءً صريحًا على حق الملكية المكفول دستوريًا.”

وكان هذا الحكم هو نقطة الانطلاق نحو تعديل شامل للتشريعات.

البرلمان يتدخل: ماذا جاء في التعديلات الجديدة؟

في 30 يونيو 2025، وافق مجلس النواب على مشروع قانون الإيجارات القديمة نهائيًا، بعد مناقشات موسعة في لجنتي الإسكان والشؤون التشريعية.

أبرز ملامح القانون الجديد:

مرحلة انتقالية:

7 سنوات للوحدات السكنية

5 سنوات للوحدات غير السكنية (تجارية – إدارية – مهنية)

خلال هذه الفترة: زيادة سنوية 15% على القيمة الإيجارية الحالية.

حد أدنى للإيجار الشهري:

لا يقل عن 1000 جنيه في المدن

لا يقل عن 500 جنيه في القرى

نهاية الامتداد الإيجاري:

بعد المرحلة الانتقالية، ينتهي العقد تلقائيًا.

التوريث يقتصر على الدرجة الأولى فقط، بشرط الإقامة المستقرة.

إلغاء القوانين القديمة:

القوانين (49 لسنة 1977 – 136 لسنة 1981 – 6 لسنة 1997) تُلغى نهائيًا.

الإلغاء الكامل يسري بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.

ردود الفعل المجتمعية: بين ترحيب وقلق

الملاك: اعتبروا القانون انتصارًا طال انتظاره بعد سنوات من “التجميد العقاري”.

المستأجرون: أبدى كثير منهم تخوفًا من فقدان المأوى، خاصة كبار السن ومحدودي الدخل.

الدولة: أكدت التزامها بضمان الحماية الاجتماعية وتوفير بدائل للفئات غير القادرة، سواء بالإسكان المدعوم أو بالدعم النقدي.

من يربح؟ ومن يتألم؟ (ماذا بعد؟)

المستأجر: يظل في مكانه خلال المرحلة الانتقالية، ويلتزم بالزيادات التدريجية.

المالك: يسترد ملكيته بعد انتهاء المرحلة، أو يُبرم عقدًا جديدًا وفق القيمة السوقية.

الدولة: مطالَبة بتنفيذ آليات واضحة لحماية الأسر الأكثر هشاشة من آثار التعديل.

لماذا كان لابد من هذا التغيير؟

لأننا أمام منظومة كانت مجمدة لعقود:

تضر الملكية الخاصة.

تُجمد سوق العقارات.

وتخلق خللًا بين طرفي العلاقة الإيجارية.

ولأن التوازن الحقيقي بين “الحق في السكن” و*”حق الملكية”* لا يُبنى على ظلم طرف لصالح الآخر، بل على تشريع عادل يعيد الأمور لنصابها دون صدام.

رأيي كمستشار قانوني

إن التعديلات الجديدة، رغم الجدل، تُعد خطوة شجاعة طال انتظارها.
لقد آن الأوان أن يعود الحق لأصحابه، دون أن نُهين أو نُقصي أحدًا.
القانون الجديد يُنهي حالة التجميد، يُعيد الاعتبار للملكية، ويمنح المستأجر وقتًا كافيًا للتكيف.

التوازن هو مفتاح العدالة.
لا ظلم للمستأجر، ولا مصادرة لحقوق المالك.
والدولة تظل الحَكَم والمسؤول عن الحماية الاجتماعية والبدائل الكريمة.

 

كلمة أخيرة

هذا القانون ليس نهاية معركة، بل بداية مرحلة جديدة.
مرحلة يفوز فيها العدل، لا الغضب.
وأدعو الجميع – ملاكًا ومستأجرين – أن ينظروا إليه لا بروح الصراع، بل بروح الشراكة في بناء مجتمع يحترم الحقوق، ويصون الكرامة.

هل نملك الشجاعة لننظر إلى الماضي بعين الإنصاف، ونرسم مستقبلًا أكثر عدلًا للجميع؟


بحث