كتب: علي بلاسي
خلال محاضرة لأئمة ووكلاء الأوقاف بدولة الجزائر الشقيقة بمعسكر أبي بكر الصديق بالإسكندرية مساء أمس أكد الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف أننا أمة قادرة لو أخذنا بأسباب العلم وفهمنا ديننا فهمًا صحيحًا، وأن العالم الآن عاد يبحث عن القيم الإيمانية والأخلاقية والإنسانية أكثر من أي وقت مضى، وأنه يجب أن نبني أنفسنا بناء علميًّا يتسق ومتطلبات العصر، وتساءل لماذا ترضى أن تكون في المؤخرة إذا كان بوسعك أن تكون في المقدمة؟ ولماذا لا تحاول دائمًا أن تكون في المقدمة ؟ فنحن في حاجة إلى مزيد من الجهد والعرق والبذل والعطاء في مختلف المجالات.
مؤكدًا أننا لابد أن نعلو بطموحاتنا في كل شيء على المستوى الفردي والمؤسسي والمجتمعي والوطني، على مستوانا كأمة قادرة على الشراكة الحقيقية والإسهام الحقيقي في بناء الحضارة الحديثة، بل ليس هذا فحسب بل بفضل الله وقيم ديننا العظيم قادرون على أن نكون ميزان الاعتدال والوسطية في بناء الحضارة الإنسانية الحديثة، وفي ظل التقلبات الأخيرة ما بين أوبئة وحروب وانكسارات عاد كثيرون يبحثون عن القيم الأخلاقية والإنسانية، ويحللون ما وصل إليه حال الإنسانية، ويتساءلون ما المخرج؟ مؤكدًا أن العصمة بالله هي المخرج، وأن الحضارات التي لا تبنى على القيم والأخلاق تحمل عوامل سقوطها في أصل بنائها وأساس قيامها، يقول الشاعر :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ويقول :
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه
فقوم النفس بالأخلاق تستقم
ويقول:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
هذا ينطبق على الفرد والجماعة وعلى الأمم والشعوب والدول، فمن يتمسك بالقيم والأخلاق يتمسك بحبل قويم بحبل الله سبحانه، ومن تضيع منه القيم والأخلاق خسر خسرانًا مبينًا، وكما قالوا: يمكن للإنسان أن يخدع بعض الناس بعض الوقت ولا يمكن له أن يخدع كل الناس كل الوقت وكما قالوا:
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ
وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ
كما أكد وزير الأوقاف أن تعلم اللغة العربية من أساسيات فهم أسرار الكتاب والسنة ففهم الكتاب فرض واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكان سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول: لا يقرأ القرآن إلا عالم بالعربية، وكان هارون الرشيد يقول لمعلم أبنائه: علمهم العربية تعذب ألسنتهم، ومع تطور الوقت أصبح الأئمة في حاجة إلى تعلم علم النفس وعلم الاجتماع وإتقان مهارات الحاسب الآلي لأن الأصل أن يتحدث الإنسان مع العصر بلغة العصر وتعلم لغة أخرى فمن تعلم لغة واحدة جمع ثقافة واحدة ومن تعلم لغتين جمع ثقافتين، ومن تعلم ثلاث لغات جمع ثلاث ثقافات، وكان المتنبي يقول :
أَتَيتُ بِمَنطِقِ العَرَبِ الأَصيلِ
وَكانَ بِقَدرِ ما عايَنتُ قيلي
وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ
إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دليل
هذا ما يجب أن يكون عليه طموح كل إنسان، قال سبحانه: “إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ”، مؤكداً أن القتال في الإسلام دفاع عن الوطن أو المال أو العرض، فالإسلام ليس متشوفًا للدماء، وأنه لن يحترم الناس ديننا مالم نتفوق في أمور دنيانا، فإذا تفوقنا في أمور دنيانا احترم الناس ديننا ودنيانا، وقيل لأحد العلماء: كيف تزرع الثقة في طلابك؟ قال: من قال لا أعلم قلت له تعلم، ومن قال مستحيل قلت له جرب، ومن قال لا أستطيع قلت له حاول، مؤكدًا أن العلم يحتاج إلى خلق وتطبيق وتقوى قال الشافعي :
شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي
فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ
وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي
كما تحدث معاليه عن الجانب اللغوي مشيرًا إلى أثر اللغة في فهم النص، فالباء في قوله تعالى : “وامسحوا برؤوسكم”، اختلف العلماء في مقدار مسح الرأس، فمن رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) يمسح كل رأسه حمل الباء على مسح جميع الرأس، ومن رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) يمسح بعض رأسه حمل الباء على التبعيض، ومن رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) يمسح ربع رأسه قال ربع الرأس، لكن المالكية يقولون الباء للتأكيد وعند الشافعية قالوا الباء للتبعيض، وعندما يكون هناك آراء متعددة إما أن ترجح بين الأدلة وإما أن تجمع بينها إن أمكن، فإن قلت إن الباء للتأكيد انصرف المعنى إلى كل الرأس، وإن قلت للتبعيض انصرف المعنى إلى بعض الرأس، وعند الأحناف قالوا ربع الرأس، وأما موضع الباء من اللغة؟ فقالوا الباء هنا للإلصاق، نقول مسحت المكتب بيميني، ونقول مسحت يميني بالمكتب، هناك فرق بينهما ففي الأولى آلة المسح اليد ومحل المسح المكتب، قالوا إذا دخلت الباء على الآلة تعم المحل، وإذا دخلت الباء على المحل تعم الآلة.
وفي قول الله (تبارك وتعالى): “وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا”، ويقول سبحانه: “وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا”، ربما يلتبس على بعض الناس بعض الواو في الحالتين إذا لم يفهم المعنى فإن فهم المعنى لا يمكن أن يلتبس عليه الفهم بعد ذلك، قال المفسرون وأهل العالم وهو رأي جمهور المفسرين الواو هنا هي واو الحال، أي جاؤوها والحال أنها مفتوحة، قال تعالى ” جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ “وهذا من مزيد إكرام الله لعباده المؤمنين، أما جهنم فتأخذ أهلها بغتة وفجأة، وقال بعضهم: إنها واو الثمانية، وكان من عادة بعض القبائل العربية أن تقول واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية فتأتي بالواو مع العدد الثامن، والقرآن الكريم نزل على سبعة أحرف وقد راعى بعض اللهجات العربية الفصيحة، ومنها هذه اللهجة التي تثبت الواو مع العدد الثامن على رأي من قال إن الواو هنا هي واو الثمانية، ولذلك نظائر في القرآن الكريم، اقرأوا قول الله تعالى: “سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ”، فجاءت الواو مع العدد الثامن، وفي سورة التوبة يقول سبحانه وتعالى: “التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ”، فجاءت الواو مع العدد الثامن، وفي سورة التحريم يقول سبحانه وتعالى: “عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا”، فجاءت الواو مع العدد الثامن، وفي إفادتها معنى آخر وهو معنى التنويع، فلا مانع أن يفيد ذكر الحرف أكثر من معنى، ما علاقة هذا بالآيتين (فتحت) و (وفتحت)؛ أبواب جهنم سبعة لقوله تعالى :”لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ”، والعرب لا تأتي بالواو مع العدد السابع، أما أبواب الجنة فثمانية، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): “ما منكم من أحدٍ يتوضَّأُ، فيُحسنُ الوضوءَ، ثم يقولُ: أشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه اللهم اجعلْني من التوابين، واجعلني من المتطهِّرين، إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّةِ الثمانيةُ، يدخلُ من أيِّها شاء”، فلما كانت أبوب جهنم سبعة لم يؤت معها بالواو، فقال سبحانه: “وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا”، ولما كانت أبواب الجنة ثمانية جيء معها بالواو، فقال سبحانه: “وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا”، أي وكأنه (سبحانه وتعالى) يقول: وفتحت أبوابها الثمانية، ولا مانع أن تفيد الواو هنا الحالية جاؤوها والحال أنها مفتوحة والثمانية معا، فما دلالة أن جعل الله أبواب جهنم سبعة أبواب وأبواب الجنة ثمانية أبواب قال بعض أهل العلم: هذا دليل على أن رحمة الله أوسع من غضبه، اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”، فإذا كان هذا هو خطاب الله (عز وجل) لعباده الذين أسرفوا على أنفسهم فما بالكم بخطابه لعباده المؤمنين، مشيرا إلى أن القرآن الكريم لا يمكن أن تدرك أسراره وأبعاده إلا بفهم عميق ودقيق للغة القرآن الكريم.
كما أكد وزير الأوقاف أن مال الوقف يدار وفق أسس شرعية وقانونية، ونعمل وفق ما أكد عليه جمهور الفقهاء من أن شرط الواقف كنص الشارع وهناك قوانين ضابطة لذلك، مبينا أن الوقف مجال عظيم وباب واسع إذا أحسنا استثماره، مؤكدًا أن حرمة مال الوقف كحرمة مال اليتيم والمساس به كالمساس بمال اليتيم وبالتجربة المشاهدة الملموسة لا يعتدي أحد على مال الوقف إلا عجل الله له العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، فمال الوقف ذو طبيعة خاصة، فهو مال أناس صالحين اقتطعوه من مالهم وفوضوا الله عليه فهو مال طاهر لا يعتدي أحد عليه ويسلم، قال سبحانه: “إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا”، فعلينا الحذر من الاقتراب منه تحت أي مسمى، قال الشاعر:
جَمَع الحرام إلى الحلال ليكثره
دخل الحرام على الحلال فبعثره
فعلى الإنسان إذا أراد خيرًا أن يعجل بفعله، فقد جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ (صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ)، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقالَ: “أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ البَقَاءَ، وَلَا تُمْهِلَ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كانَ لِفُلَانٍ”، من أراد الخير فليعجل، يقول سبحانه: “وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ”، ويقول سبحانه: “فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَآ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ”، ويقول سبحانه: “وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ”، كما أوضح معاليه أن الأوقاف قد جمعت ممتلكاتها في أطلس جغرافي كبير يتضمن اسم الواقف ورقم الوقف ومساحة الوقف ومكان الوقف وحدوده وهل هو أهلي أو خيري أو مشترك، على خرائط مساحية عملنا عليها لمدة ثلاث سنوات تقريبًا ويتم تطويره سنويًا، حيث قمنا بجمع الحجج وأرشفناها إلكترونيًا، وأخذت تقريبًا ستة أشهر، ثم دخلت هيئة المساحة المصرية وقامت بمطابقة الأرض قطعة قطعة وأخذت سنة تقريبًا، ثم تم إنزال ما تم رفعه على خرائط أطلس وخرج في 92 مجلدًا، وكان هذا أهم توثيق للأوقاف، ولا يمكن لأحد أن يسجل قطعة أرض دون الحصول على موافقة الأوقاف، هذا بالإضافة إلى أن وزارة الأوقاف قامت بتنفيذ أكثر من 16 ألف وحدة سكنية، وقمنا بإنشاء أكبر مدينة حرفية بالغردقة، وهنا بالإسكندرية ما يزيد على 8 آلاف وحدة سكنية، وقمنا بإنشاء أكثر من مول تجاري، كما أن لدينا مصنعًا للسجاد (المحراب) الذي يتم فرشه بالمساجد، ولا نقوم بشراء أي سجاد على الإطلاق وننتج 700 ألف متر سنويًّا، وكذلك الزي الأزهري للسادة الأئمة، وينتج 60 ألف زي، هذا بالإضافة إلى شركة الأمن والصيانة، كما استطعنا أن نحسن الأحوال المالية للسادة الأئمة من الموارد الذاتية للأوقاف، كما قمنا بالتعاقد مع 23 جامعة لتأهيل الأئمة للماجستير والدكتوراه، ولدينا الآن أكثر من ستة آلاف من حملة الماجستير والدكتوراه، ونأمل إن شاء الله أن تقوم أكاديمية الأوقاف بمنح درجة الماجستير في الثقافة الإسلامية في القريب العاجل.