أخيراً، وصل ريكس تيلرسون، الذى كان يشغل منصب رئيس واحدة من أكبر شركات البترول فى العالم، لمدة عشرة سنوات، قبل أن يستقيل منها، ليتولى منصب وزير الخارجية فى إدارة ترامب …
أجلس الجميع على طاولة الاجتماعات، وأبدى تيلرسون استياءه من مستوى الدونتس الذى يقدم فى البيت الأبيض، مستطرداً، بأنه سيحضر معه نوعه المفضل من تلك الحلوى الأمريكية، فى المرات القادمة.
ليل داخلى … الساعة العاشرة مساء … البيت الأبيض … الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ينتهى من تناول وجبة العشاء … تناولها على عجل … يبدو عليه الشرود … توجه وحيداً إلى غرفته الخاصة … وقف أمام النافذة يفكر فيما عقد عليه العزم منذ عدة أيام … حان الوقت لمصارحة مجموعة اتخاذ القرار، بالبيت الأبيض، ومجموعة الأمن القومى بقراره … بدأ يتخيل ما سيدور بينهم من حوار … لا يهم … لدى رد لكل انتقاد محتمل!!
لقد قرر، ترامب، إعلان اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل … ليس اعترافاً، فحسب، وإنما سيتبعه نقل السفارة الأمريكية، لدى إسرائيل، من تل أبيب إلى القدس … ذلك القرار الذى وعد ترامب ناخبيه بتنفيذه، إبان حملته الانتخابية، للفوز برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
تخيل، ترامب، نفسه واقفاً أما جموع الشعب الأمريكي، يخطب فيهم … بزهوٍ … بأنه قد حقق كل ما وعدهم به، فى أثناء حملته الانتخابية، باستثناء إلغاء «مشروع أوباما كير» للتأمين الصحى، الذى كان يرى فيه مصلحة لشركات التأمين والمنشآت الصحية، على حساب المواطن الأمريكى … حتى هذا الوعد حاول تنفيذه، بكل قوته، ولكن الرفض جاءه من الكونجرس.
أكمل، ترامب، خطبته، الخيالية، للشعب، فخوراً بأنه لم يحقق ما وعد به، فقط ، وإنما حققه فى أول أعوامه داخل البيت الأبيض … صاح فيهم أنه الأقوى … فلم يفعلها أحد غيره من الرؤساء الأمريكيين السابقين. وحتى قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لم يقو سابقوه على تنفيذه، بالرغم من موافقة الكونجرس على هذا القرار منذ عام 1995 … أى منذ اثنين وعشرين عاماً … أكد ترامب لنفسه، مرة أخرى، أنه الرئيس الأمريكى الأقوى!
فكر، ترامب، فيما سيسببه قراره من غضب، خاصة بين حكام وشعوب الدول العربية والإسلامية … ولكنه رأى فى نفسه، وفى بلاده، القدرة على استيعاب تلك الموجة من الغضب … قال لنفسه إن العرب كثيرو الكلام … والشعارات الرنانة … ولكن عندما تحين ساعة العمل، ويحين موعد اتحادهم … تتوارى كلماتهم، وشعاراتهم، ووعودهم البراقة … وتكثر خلافاتهم، ومشاحناتهم!
توجه إلى مكتبه … التقط سماعة الهاتف … اتصل بجون كيلي، رئيس الإدارة فى البيت الأبيض، Chief of Staff، ليبلغه بترتيب اجتماع فى تمام التاسعة من صباح اليوم التالي، مع مجموعة الأمن القومي، بالمكتب البيضاوى … وزير الدفاع جيمس ماتيس، وزير الخارجية ريكس تيلرسون، رئيس أركان الجيش الأمريكى جو دانفورد، ورئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA مايك بومبيو، ومستشار الرئيس للأمن القومى هيربرت ماكمستر، وبالطبع، بحضور نائب الرئيس الأمريكى مايك بنس … وجه ترامب بأن يحضر كل منهم مساعديه، على أن يشاركوا فى النصف الثانى من الاجتماع.
سأل جون كيلي، رئيس الإدارة بالبيت الأبيض، عن سبب الاجتماع، ليبلغ الحضور بإعداد ما يلزم بشأنه، ولكن الرئيس الأمريكى لم يخبره بما يريد … فقد حدث نفسه بأنه من الأفضل أن يكون الموضوع مفاجأة بالنسبة لهم، لتكون ردود أفعالهم مباشرة، دونما تنسيق مسبق فيما بينهم.
توجه بعدها، الرئيس الأمريكي، ترامب، إلى غرفة نومه … تعلو وجهه ابتسامة عريضة، توحى بالزهو … خلد إلى النوم … ونام ملأ جفونه …
نهار داخلى … الساعة السادسة صباحاً … غرفة نوم الرئيس الأمريكى بالبيت الأبيض … استيقظ الرئيس الأمريكى … مازالت الابتسامة نفسها مرسومة على وجهه، وهو يكرر لنفسه … أنا الرئيس الأمريكى الأقوي!
فى تلك الأثناء، كان طاقم السكرتارية يقوم بإعداد الغرفة المخصصة للاجتماع بمجموعة الأمن القومى … رائحة القهوة الأمريكية الطازجة تفوح فى المكان … أطباق الدونتس الأمريكية رُصت بجانب القهوة … كانت الساعة قد قاربت على الثامنة والنصف صباحاً، وبدأ توافد الحضور … كان أولهم الجنرال جيمس ماتيس، وزير الدفاع، ذلك الرجل العسكري، الأعزب، فلم يسبق له الزواج … توجه ماتيس إلى الطاولة وبدأ فى إعداد فنجانه من القهوة، قبل أن يلحق به الرجل العسكرى الثاني، الجنرال جو دانفورد، رئيس الأركان … فالانضباط السمة الأساسية لأبناء المؤسسة العسكرية … تبادل الجنرالات تحية الصباح، وسأل كل منهما الآخر عن معلوماته عن السبب وراء هذا الاجتماع، فلم يجدا معلومات لدى أى منهما.
لحق بهم مايك بومبيو، وألقى عليهم التحية، سائلاً عن سبب الاجتماع، خاصة أنه تحدث، فى الليلة السابقة، مع ريكس تيلرسون وزير الخارجية، الذى أكد أنه لا يعلم، كذلك، بموضوع الاجتماع … فعلق وزير الدفاع، ضاحكاً، «إذا كان مدير المخابرات لا يعلم، فإن أمريكا فى خطر!» … وضحك الجميع، فى أثناء دخول ماكمستر مستشار الأمن القومي، حاملاً معه العديد من الملفات، تحسباً لسبب الاجتماع، فشاركوه الدعابة.
أخيراً، وصل ريكس تيلرسون، وزير الخارجية فى إدارة ترامب … جلس الجميع على طاولة الاجتماعات، وأبدى تيلرسون استياءه من مستوى الدونتس الذى يقدم فى البيت الأبيض، مستطرداً، بأنه سيحضر معه نوعه المفضل من تلك الحلوى الأمريكية، فى المرات القادمة.
دقت الساعة التاسعة صباحاً، فدخل الرئيس الأمريكي، ترامب، إلى قاعة الاجتماعات، وخلفه نائبه، مايك بنس، الذى كان يجلس معه فى المكتب البيضاوي، قبيل بدء الاجتماع، فى محاولة لاستنباط موضوع الاجتماع. ألقى الرئيس تحية الصباح، وسأل عن أحوالهم وأحوال عائلاتهم، وكيف يواكبون حياة الأزواج بعد انضمامهم للإدارة الأمريكية، ثم نظر إلى وزير الدفاع، وقال مداعباً … «أظنك فى راحة من كل ذلك» … وضحك وزير الدفاع، وجميع الحضور.
ثم بدأ، الرئيس الأمريكى، الاجتماع، بتأكيد أن سبب عدم إخطارهم بموضوع الاجتماع، هو تفادى التنسيق المسبق، أو اتخاذ قرارات مسبقة، ولإتاحة الفرصة لمناقشة الأمر، بكل أبعاده، كما يتراءى للمشاركين فى أثناء الاجتماع.
استطرد الرئيس الأمريكى فى شرح مبررات قراره، قبل الإعلان عنه، قائلاً إن الهدف الأول منه هو التأكيد للمواطن الأمريكى أننى كنت صادقاً فيما وعدت به أثناء حملتى الانتخابية، وأننى لم أكن أضلل أى منهم للحصول على أصواتهم … ومازلت أعمل… وسأعمل… لأفى بكل وعودى… واليوم أرغب فى الوفاء بوعد آخر، وهو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارتنا إليها، بعدما عجز كل الرؤساء السابقين عن تنفيذ هذا القرار الذى اتخذه الكونجرس منذ 22 عاماً … أنا أقوى، وأصدق من كل من جلسوا على مقعدى هذا، داخل هذه الغرفة. اليوم، يهمنى أن يدرك المواطن الأمريكي، أن لديه رئيساً قوياً … صادقاً!!!
عقّب تيلرسون قائلاً، إن هذا الإعلان من شأنه استفزاز مشاعر العرب، بمختلف دياناتهم، لما للقدس من مكانة دينية تاريخية للجميع، مما سيعرض الولايات المتحدة للعديد من الانتقادات، التى قد تصل لحد تهديد مصالحها فى المنطقة، من قبل الجماعات الدينية المتطرفة، المنتشرة هناك.
أنهى تيلرسون تعليقه، فالتقط رئيس أركان الجيش الأمريكي، جو دانفورد، طرف الحديث، ليحدد طبيعة التهديدات التى قد تتعرض لها المصالح الأمريكية، جرّاء هذا القرار . استطرد، دانفورد، قائلاً إنه يجب التنسيق مع الحكام العرب لتحمل مسئولياتهم نحو حماية مصالحنا ومنشآتنا لديهم. أما فيما يخص الجماعات الدينية المتطرفة، أمثال القاعدة وداعش، فرأى رئيس الأركان أن دورهم فى الرد على هذا القرار سيكون محدودا، فى ظل القضاء على معظم تجمعاتهم، وفى ظل انشغالهم بمحاربة المسلمين حولهم، دون غيرهم … فانخرط الجميع فى نوبة ضحك على تعليقه.
هنا تدخل وزير الدفاع، جيمس ماتيس، للتعليق، بما له من خبرة عن المنطقة العربية، أكتسبها خلال سنوات ثلاث، كقائد للقيادة المركزية الأمريكية، المعروفة اختصاراً باسم «سنتكوم» أو CentCom، قبيل توليه منصب وزير الدفاع فى الإدارة الحالية، فأكد عدم قلقه من توابع إعلان هذا القرار … فمن خلال دراسته لشعوب تلك المنطقة، فإنه لا يتوقع أن يستمر «استياءهم» لأكثر من أسبوعين على أقصى تقدير، قبل أن تعود حياتهم إلى طبيعتها، ووتيرتها..
وأمام مباركة وزير الدفاع، ورئيس أركان الجيش الأمريكي، للقرار المزمع اتخاذه، طلب وزير الخارجية، من الرئيس ترامب، أن يمهله ثلاثة أيام، للاتصال بنظرائه فى الدول العربية والإسلامية، للتمهيد للقرار، وقياس ردود الأفعال .
جاء الدور على مايك بومبيو، رئيس المخابرات المركزية، CIA، ليدلو بدلوه … فقال «سيدى الرئيس … إن هذا القرار، من شأنه نسف مباحثات السلام، المزمع عقدها بين فلسطين وإسرائيل … نسفاَ!»،
ابتسم الرئيس الأمريكى ترامب، قائلاً إنه لا يحب، بالضرورة، التحليلات المخابراتية، «التى تلقى بقنابل شديدة الانفجار، دون عرض البدائل»، ووجه حديثه لوزير الخارجية، يسأله عن تقديره للمدة الزمنية التى سيحتاجها العرب لاستيعاب هذا الإعلان، والتأقلم مع تبعاته … تردد وزير الخارجية فى الرد، فالتقط جيمس ماتيس، وزير الدفاع، طرف الحديث بتوقعه أن هذا القرار من شأنه تجميد مباحثات لمدة عام، على الأكثر، وهو ما يمكن للولايات المتحدة التعامل معه، بمزيد من الجهود والعلاقات الدبلوماسية!
ثم سأل ترامب جميع الحضور، وبالتحديد كان سؤاله موجهاً لوزير الخارجية، عما سيكون موقف بوتين من هذا القرار … فأجابه وزير الخارجية، بأن النفوذ الروسى قد تمدد كثيراً فى المنطقة العربية، مؤخراً، وأصبح موقفهم أقوي، بعد نجاحهم فى مساعدة سوريا فى القضاء على تنظيم داعش بها … إلا أن وزير الخارجية رأى أنه فى مقدور بلاده التحاور مع روسيا فى هذا الشأن، وإقناعها بعدم إثارة الموضوع، فى مقابل تخفيف بعض القيود والعقوبات المفروضة عليها، بعد أزمة أوكرانيا … وهو ما يرجح ترحيب روسيا به.. رفع الرئيس الأمريكى الاجتماع، لاستراحة قصيرة وتناول القهوة، قبل استئناف المناقشات بحضور مساعدى أعضاء لجنة الأمن القومي.
بدأ الجزء الثانى من الاجتماع، بعرض سريع، قدمه وزير الخارجية لأطقم المساعدين، عن سبب وموضوع الاجتماع … ثم وجه ترامب حديثه للجنرال ماكمستر، مستشاره للأمن القومي، قائلاً «لم نسمع رأيك بعد فيما طرحناه»، فرد ماكمستر بأنه يتوقع حجة قوية من العرب، مفادها أن القدس مدينة محتلة … فكيف يكون لأى جهة تغيير صفتها دون موافقة طرفي، أو أطراف، النزاع؟ … فرد الرئيس الأمريكي، بأن تلك المهمة ستقع على عاتق وزير الخارجية، الذى تكمن مسئوليته فى إيجاد الأسانيد القانونية المبررة لذلك القرار، بالتعاون مع الأصدقاء الإسرائيليين. أكد وزير الخارجية أنه سيضع سيناريوهات مختلفة، للتعامل مع رد الفعل العربي، خاصة حال لجوئهم للمنظمات الدولية، لطرح تلك المعضلة، لافتاً انتباهه أن عضوية مصر غير الدائمة فى مجلس الأمن، السارى حتى نهاية الشهر الحالي، ستخول لها الفرصة لإثارة هذا الموضوع فى مجلس الأمن … مضيفاً أنه فى ظل اعتقاده بأنه قادر على التفاهم مع روسيا فى حدود معينة، إلا أنه على يقين من أن الصين ستساند العرب، مما سيزيد الأمر تعقيداً، باعتبارها قوة لا يستهان بوزنها.
تدخل ماكمستر، فى الحوار، مؤكداً أن موجة الغضب التى ستجتاح الشارع العربى والإسلامى ستكون عارمة، متسائلاً عن احتمالات التراجع عن هذا القرار … انفعل، ترامب، حتى أحمر وجهه، وهو يجيب بانفعال «أبداً … أمريكا لا تتراجع … ترامب لا يتراجع … لقد وعدت الأمريكيين بهذا الوعد … وسأنفذه … أنا لا أخاف مثل باقى الرؤساء الأمريكيين» … ثم هدأ، قليلاً، ليطلب من الحضور وضع سيناريو محكم للتعامل مع الموقف فى حال تفاقم الأوضاع، للتقليل من حدة آثاره . ثم سأل الرئيس الأمريكي، جميع الحضور، عن تصورهم لموقف كل من إيران وتركيا بعد إعلان هذا القرار … فأجابه وزير الخارجية بأن الموقف الإيرانى يحتاج إلى دراسة منفصلة.
كان الاجتماع قد امتد إلى ما بعد منتصف اليوم، وقبل أن يوشك على الانتهاء، خرج الرئيس الأمريكى بمجموعة قرارات، أولها أنه سيمنح مجموعة الأمن القومى حتى نهاية اليوم لدراسة مختلف التفاصيل، وعرضها فى اجتماع لاحق، فى صباح اليوم التالي، خاصة الأهداف الأمريكية المطلوب تأمينها حول العالم عامة، والشرق الأوسط خاصة، وآلية التأمين التى يجب أن تتم فى غضون يومين على الأكثر.
تم رفع الاجتماع، مؤقتاً، حتى صباح اليوم التالي، موعد اجتماع مجموعة الأمن القومي، مرة أخري، لتعرض، على الرئيس الأمريكي، الخطة المتكاملة لإعلان القرار، شاملة الحدث، والتوقيت، وتوزيع المسئوليات … ومازحهم الرئيس الأمريكي، بأنه سيختار، بنفسه، لذلك الاجتماع، أنواعاً متميزة من الدونتس، ومختلف الحلوى المصنوعة بأيادٍ أمريكية!
عزيزى القارئ … كان ذلك سيناريو من نسج خيالي، ممزوجاً ببعض الحقائق النابعة من خبرات شخصية، عن الأحداث التى جرت فى البيت الأبيض، قبل خروج الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على العالم، فى 6 ديسمبر الحالي، بإعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس … وقد يقترب الخيال، فى بعض الأحيان، من الواقع، عن أسلوب العمل داخل مؤسسات الرئاسة فى أى دولة كانت… أخشى ما أخشاه، أن يكون لقرار الرئيس ترامب نفس القيمة، التى حظى بها وعد بلفور لإنشاء وطن قومى لإسرائيل.